أين الفراشات؟.. أجمل الحشرات تودّع المدن

أين الفراشات؟.. أجمل الحشرات تودّع المدن

العالم الجديد – مروان كاظم

قطعت الطفلة ميار ذات السبعة أعوام لحظة صمت على عائلتها وهي ترى فراشة ترفرف قرب منزلها الذي حرص والدها على أن يسوّر شرفته بشجيرات الياس والزهور الحمراء الجهنمية، إذ بدت الطفلة سعيدة وهي تصرخ كمن يجد كنزاً: "إنها فراشة"!.   "لم تر ميار هذا الكائن إلا في الكتب المنهجية ودفاتر
...

قطعت الطفلة ميار ذات السبعة أعوام لحظة صمت على عائلتها وهي ترى فراشة ترفرف قرب منزلها الذي حرص والدها على أن يسوّر شرفته بشجيرات الياس والزهور الحمراء الجهنمية، إذ بدت الطفلة سعيدة وهي تصرخ كمن يجد كنزاً: "إنها فراشة"!.

 

"لم تر ميار هذا الكائن إلا في الكتب المنهجية ودفاتر التلوين"، يقول والدها محمد الطائي (35 عاماً).

 

ويستذكر الطائي في حديث لـ"العالم الجديد"، أن "الفراش والجراد واليعاسيب وغيرها كانت موجودة بكثرة في فترة طفولته، "كنا نطارد هذه الحشرات لنصطادها عبر أكياس مربوطة إلى عصا، ونتسابق على جمعها في الكيس ثم إطلاقها إلى الحدائق مرة أخرى".

 

ويفطن، إلى غياب كائنات أخرى كانت مألوفة الظهور قرب المنازل كالضفادع التي تطلق صوتا معروفا والحشرة الطنانة ذات الصفير المميز ليلاً.

 

ورصدت منظمات بيئية، غياب أنواع كثيرة من الكائنات الأحيائية سواء في المدن المأهولة بالسكان أو البيئات الأخرى، وباتت أعداد الحشرات تتناقص بمعدلات مثيرة للقلق، ما يمكن أن يفضي إلى نتائج وخيمة على التوازن البيئي.

 

ويؤكد الخبير البيئي أحمد صالح، خلال حديث لـ"العالم الجديد"، أن "اختفاء الحشرات والطيور من المناطق السكنية والأحياء المأهولة بالسكان بدأ تدريجياً منذ نهاية الثمانينيات من القرن المنصرم ثم استمر حتى العقد الحالي، ويعود هذا التناقص إلى اختفاء الحدائق المنزلية نتيجة الكثافة السكانية وشطر البيوت للسكن دون الذهاب إلى أماكن أخرى بسبب الوضع الاقتصادي في التسعينات وما تلاها".

 

ويضيف صالح، أن "هذه الأسباب، ساهمت في اختفاء هذه الحشرات التي تعتاش على الزهور والنباتات واختفى معها جزء من البرمائيات التي كانت تتواجد في البيوت كالضفادع وغيرها، ناهيك عن الضرر الذي تحدثه المنشآت والمناطق الصناعية والانبعاثات الغازية وعوادم السيارات في المدن على هذه الأحياء"، لافتا إلى أن "الحشرات عامل ضروري للبيئة في هذا المجال، إذ أصبح تناقصها يؤثر أيضا على الغطاء النباتي الذي كان يتكاثر بالاعتماد على التلقيح بواسطة تلك الحشرات".

 

ويعرج لاختفاء بعض الطيور أيضاً "مثل الفاختة ذات الطوق الأسود والأبيض المعروفة شعبيا بصوت (يا قوقتي) التي تناقصت بشكل كبير وحلت محلها الفاختة الجبلية ذات الحجم الصغير، وكذلك من الحيوانات المألوفة للمدن الغراب الأبقع الذي قل ظهوره بسبب عدم وجود أشجار عالية، لأن هذا الطائر كبير الحجم ويحتاج إلى تلك الأشجار ليعشش عليها، وكذلك الخفاش وهو أحد الطيور التي تعتاش على الحشرات كالخنافس والفراش، فبعدما انتهى غذاؤه الرئيسي من المدن طرد إلى مناطق أخرى بحثا عن مصادر عيش أخرى".

 

ويشدد صالح، على "ضرورة تطوير الحدائق العامة من خلال البلديات وعودة الغطاء النباتي والتشجير والتزهير في الشوارع الذي سيسهم بعودة هذه الحشرات"، مشيرا إلى أن "بعض المشاتل بدأت الآن باستقطاب طيور نادرة وكذلك رصد نوع من الفراش وهو يبدأ بالتكاثر هناك".

 

وتعرف فصيلة الفراشات التي كانت تنتشر في المدن بـ"فراش الخبيزاء" والشهير بـ"السيدة الملونة"، وهي من الأنواع المنتشرة عالميا والتي لا تهاجر إلا بعد زيادة أعدادها لتقصد في مسيرتها أوروبا وتستقر في بريطانيا معقلها الرئيس، بحسب الخبير البيئي.

 

وكانت مناطق جنوب ووسط العراق شهدت ظهورا طفيفا من هذه الفراشات في نيسان أبريل الماضي، بسبب الموسم المطري الذي شهده العراق في الربيع، ولم يقتصر ذلك الموسم على عودة الفراشات، بل عاد معها طائر السنونو الأسود الذي شوهد يحلق في سماء البصرة بعد أن اختفى لأعوام.

 

من جانبه، يُرجع الخبير البيئي أحمد ماجد، اختفاء هذه الكائنات من المدن، خلال حديث لـ"العالم الجديد"، إلى "تجريف البساتين والتغير المناخي وقلة الأمطار وتقليص المساحات الخضراء وكذلك التوسعة السكنية، إذ أن هذه الأسباب قضت على الكثير من الموائل الطبيعية الخاصة بهذه الكائنات الحية كالطيور والحشرات".

 

ويتحدث ماجد أيضاً عن "الصيد الجائر، فالصياد كان سابقا ينتقي صيده ولا يؤثر على الأحياء، لكن حاليا كل شيء معرض للقنص والقتل"، مستشهدا بأحاديث عن "تكاثر اللقلق سابقا في سطوح المنازل بالبصرة، لكن لم نعد نرى اللقلق الآن إلا في ما ندر وفي أماكن بعيدة عن الحركة السكانية".

 

ويتابع أن "وجود هذه الحشرات تؤثر على وجود أخرى لأنها تدخل ضمن سلسلة غذائية إذا فقدت حلقة ستفقد حلقة أخرى، لذلك يشكك الكثيرون الآن مثلا بجودة العسل لأن النحل لم يعد يجد مصدره الرئيسي للغذاء"، لافتا إلى أن "المواد الكيمياوية كالمبيدات المستخدمة للمعالجة الزراعية أدت بصورة كبيرة إلى قتل هذه الحشرات أيضاً".

 

وكانت وزارة الزراعة أكدت نهاية الشهر الماضي أنّ البلد خسر أكثر من 82 ألف دونم زراعي حتى الآن، بسبب عمليات التجريف التي وصفتها بأنها "ممنهجة" تستهدف البساتين والأراضي الزراعية، مما يزيد من معدلات التصحر وانحسار الزراعة بشكل خطير، بالإضافة إلى التحذيرات من المخاطر البيئية التي تهدد حياة السكان.

 

إلى ذلك، يتحدث الباحث الأكاديمي أحمد حمدان، من تجمع حماية البيئة والتنوع الإحيائي، لـ"العالم الجديد"، عن "فقدان أنواع كثيرة من الطيور ذات الموئل الثابت أو المهاجرة، وكذلك فقدان الفراشات والزواحف، وقد طالبنا مرارا بإيقاف التدهور والنزيف البيئي بعد التعرض الكثير من الكائنات الإحيائية للقتل الممنهج".

 

ويضيف حمدان أن "وسائل القتل التي يتبعها الإنسان هي أهم الأسباب انقراض الكثير من الحشرات والزواحف والطيور والأسماك واللبنيات والثديات في العراق، إذ تتعرض هذه الأحياء لقتل ممنهج سواء من قبل السياح أو الصيادين المحليين أو العابثين والهواة".

 

ويرى أن "غياب المساحات الخضراء في المدن أو تحويلها إلى مساكن ومبان أخرى قضت على الكثير من هذه الكائنات نتيجة قتل ملايين الأشجار وخمائل الزهور ما أدى إلى انقراض الحشرات لاسيما الفراشات التي استمر ما تبقى منها بالظهور في الربيع فقط لتضع يرقاتها في بعض الأشجار المتبقية بجنوب ووسط العراق".

 

ويكمل أن "الاندثار لم يطل الكائنات الإحيائية المتمثلة بالزواحف والحشرات وغيرها إنما طال أشجارا وشجيرات برية نادرة كانت تستقطب هذه الكائنات، لاسيما النباتات البرية كشجرة الغضا والعلندة والارطى والشنان وغيرها الكثير المتواجدة في البوادي العراقية إذ أشر أحد الأساتذة الجغرافيين أن هذه البوادي تحتوي 350 نوعا من النباتات النادرة التي لا تتواجد في كل الكوكب، والآن بدأت بالانقراض بسبب الجفاف إضافة للاحتطاب والحرق من قبل السياح لاسيما مع غياب بذورها".

 

ويتسبّب نقص الوعي البيئي في العراق وغياب المؤسّسات المعنيّة بحماية الكائنات الحية، بالإضافة إلى عدم توفّر قانون فاعل يرعى هذا الموضوع، بالقضاء على المئات من الكائنات الحيّة لا سيّما النادرة منها.

 

أخبار ذات صلة