بعد هذا الخراب... هل ثمة أمل حقا؟

بعد هذا الخراب... هل ثمة أمل حقا؟

لعل واحدة من مفارقات القدر السياسي الذي حل بالعراق منذ نهاية ستينيات القرن الماضي بعد أن استولى حزب البعث على السلطة في انقلاب عسكري سهل في تموز 1968، وحتى لحظة احتلال بغداد عام 2003، أن أطياف المعارضة السياسية تمركزت في نموذجين أساسيين  متضادين وغير متكافئين، النموذج الديني الطائفي الذي ترعرع
...

لعل واحدة من مفارقات القدر السياسي الذي حل بالعراق منذ نهاية ستينيات القرن الماضي بعد أن استولى حزب البعث على السلطة في انقلاب عسكري سهل في تموز 1968، وحتى لحظة احتلال بغداد عام 2003، أن أطياف المعارضة السياسية تمركزت في نموذجين أساسيين  متضادين وغير متكافئين، النموذج الديني الطائفي الذي ترعرع في الحاضنة الإيرانية متمثلا بحزبي الدعوة بقياداته المعروفة والمجلس الأعلى للثورة الإسلامية بقيادة آل الحكيم، يقابله النموذج اللاديني متمثلا بالحزب الشيوعي العراقي الذي تم تحييده وإضعافه مبكرا بعد أن تمت تصفية كوادره المهمة أو تهميشها واستمالتها لصالح النهج البعثي، فتشرذم وتشتت وأصبح بلا هوية واضحة منذ نهاية السبعينيات وحتى هذه اللحظة، إضافة إلى ذلك كانت تبرز بين حين وآخر تيارات سياسية ذات طابع فردي أو فئوي فقيرة فكريا وسياسيا ولدت من لدن النظام البعثي، قادها قوميون معارضون للنسخة الصدامية من حزب البعث، أمثال إياد علاوي وحسن العلوي، سرعان ما اختفت أصواتهم في جعجعة الأبواق الدينية والطائفية التي نمت بسرعة واجتاحت العراق والمنطقة، عدا ذلك لم تشهد الجغرافية السياسية العراقية اتجاهات أخرى ذات تأثير واضح. حتى الأصوات الليبرالية المتمثلة بشخصيتين كان يعول عليهما بدرجة أو بأخرى من قبل الطبقات المستنيرة في العراق أمثال ليث كبة وأحمد الجلبي وعدنان الباججي ودعاة الملكية الدستورية، فقد اختفى بعضها وانخرط بعضها الآخر وراء أجندات الأحزاب الدينية كما فعل الجلبي عندما تحول إلى ملكي أكثر من الملك ونادى بتأسيس البيت الشيعي، وثبت تورطه (من وجهة النظر الأمريكية) بعلاقات استخباراتية مع إيران. أما كبة فقد وجد نفسه معلقا في الفراغ بعد أن قدم نفسه نموذجا لانتهازية مريضة عندما قبل بدور متحدث رسمي باسم حكومة طائفية يقودها إبراهيم الجعفري عام 2005...

بعد سقوط نظام البعث بأيام واحتلال العراق بدخول القوات الأمريكية العاصمة بغداد في التاسع من نيسان 2003 لم يطرأ تغيير جذري على المعادلات السياسية الراسخة التي سبقت هذا التاريخ عدا نموذجين ظهرا بشكل مفاجئ: الأول والأهم يتمثل بالتيار الصدري، وكان في جملته الإعلامية يقدم خطابا إسلامويا شيعيا عنيفا تارة ووطنيا تارة أخرى، وطائفيا في أغلب الأحيان، معتمدا على أصوات ومشاعر الطبقات الفقيرة والأميين والانتهازيين الباحثين عن الفرص. وهو على العموم لم يختلف كثيرا عما سبقه من أحزاب وتنظيمات انطلقت من نفس الخطابات الإسلاموية التي أنتجتها النخب السياسية الشيعية الدائرة في الفلك الإيراني.

بالإضافة إلى نموذج فريد وغريب تمثل في حزب الأمة العراقي بقيادة مثال الآلوسي،  وهو الحزب الوحيد الذي طرح خطابا عراقيا خالصا ونادي بالهوية العراقية بوصفها الملجأ الأخير للذات العراقية. لكنه سرعان ما تداعى وسقط لأسباب موضوعية كثيرة لا مجال لذكرها في هذا السياق.

إلى جانب هذا المد الشيعي المدعوم إيرانيا، وأمريكيا بدرجة اقل وضوحا، وجدت الطائفة السنية نفسها عالقة في خطاب مشوش ومتعدد الاتجاهات، تارة ديني طائفي يتصل بالخطاب السلفي الأصولي القادم من السعودية، وتارة قومي بعثي على استعداد للتحالف مع الشيطان لاستعادة مواقعه التي خسرها بعد الغزو الأمريكي للعراق، أو قومي محض يردد ذات العبارات الرومانسية التي استهلكتها الأنظمة القومية العربية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، عدا هذا لم يسمع أحد بقيادات ذات نزعة عراقية خالصة قادرة فكريا وسياسيا على انتزاع فرصة حقيقية في الشارع العراقي.

بعد كل هذا وجد السياسيون العراقيون أنفسهم محشورون في قفص استقطابات طائفية تارة وإقليمية تارة أخرى، ما سمح بانفتاح ثغرات خطيرة للعنف الطائفي أسهم فيها الجميع ابتداءً من تشكيلات القاعدة وبقايا البعث الصدامي، وليس انتهاء بميليشيات واثق البطاط وجيش المهدي ومنظمة بدر وحزب الله وثار الله التي حولت الشارع العراقي إلى جحيم حقيقي.

لا شك أن أي سياسي عراقي أينما كانت تشير بوصلته يرتعد الآن بعد أن انحدرت العملية السياسية إلى الحضيض، وليس أمامه من فرصة للبقاء سوى البحث عن مخرج للأزمة التي ستقضي على التجربة التي ثبت عقمها في أية لحظة، خاصة في ظل أفق عربي وإقليمي يبدو معتما أو معفرا بلون الدم، ليس أمام أي سياسي عراقي عاقل سوى طريق واحد، ولا أمل له بأي طريق سواه، وهو العودة إلى العراق، والعراق فقط.

آن الأوان لإجراء مراجعة شاملة للتجربة السياسية العراقية منذ عام 2003 وحتى الآن، على طاولة واحدة مساحتها الوطن.