ثقافة

سعدي يوسف بين منجزهِ وغُربته
سعدي يوسف، ليس مجرّد شاعرٍ يمكن لك أن تغضَّ النظر عن إنجازاته الشعرية أو ترجماته المهمة، فهو أحّد أعمدة الشعر العراقي بلا منازع.فهو ظاهرةٌ خاصة ألقتْ بظلالها على أجيالٍ من الأدباء والمبدعين ليسَ فقط في بلده العراق ولكن في الكثير من البلدان العربية التي حطّ رحاله فيها وهناكَ كتب حالته الشاعرية متلقّفاً احياء تلك البلدان وطبيعة ناسها ومقاهيها وحدائقها وتاريخها.
سعدي ومع نضوج تجربته الشعريّة على مدارِ عشرات من السنين أصبحَ شاعراً عالميّاً ومترجماً فذّاً يشار له بالبنان.فما أنجزه شعراً بدءً من ديوانه الأوّل القرصان وحتى ديوانه الأخير خريف مكتمل كانَ حافلاً بالرؤية الخاصة والتجسيدات اليومية الدقيقة والتوظيف الإسطوري الناجح والتمكّن في النسّج الزمكاني الممتد.حتّى أمكن لنا أنْ نُسمّيه بشاعر التفاصيل ورائدها على مستوى الشعر العربي.
وتجربة سعدي الأدبية لم تقتصر على الشعر- رغم أنّه ميدانه الأكثر أهمية في نهاية المطاف-بل وشملتْ محاولاته كتابة الرواية واليوميات والمقالات والقصص القصيرة ولهُ مسرحية شعرية عنوانها "عندما في الأعالي" كتبها عام ١٩٨٩ وهو لم يكتب سواها ؛ ربّما لانشغاله الدائم بالشعر ذاته أو عدم استساغته المبادئ الي تقوم عليها المسرحية الشعرية،و أياً كان موقفه كانت هذه المسرحية الوحيدة التي كتبها سعدي في مشواره الأدبي.
لكن في ميدان كتابةِ اليوميات كانَ له إنتاجٌ أوفر فمنذ عام ١٩٨٣ قام سعدي بتأليف يومياته وعَنونَ أوّلها" سماء تحت راية فلسطينية " وبعدها أصدرَ يوميات المنفي الأخير ثم خطوات الكنغر وآخرها يوميات الأذى ويوميات ما بعد الأذى الصادرة عام ٢٠٠٧ ولم يتوقف سعدي عن كتابة يومياته عمليا لأنه بَقِي يكتب في موقعه على الانترنت مقالاته ويومياته والاحداث التي يمر بها أو ذكرياته التي عاشها مع أبناء جيله.
المكان والغربة حتّى هيرفيلد
إنّ المتفحّص لقصائد سعدي يجدُ بما لا يقبل الشكّ ذلك التنوع المثير للإعجاب في قاموسه المكاني الثري بل والشديد الثراء...فها أنتَ تقرأ " جيكور" و"البصرة" و" الفلوجة " و" العراق " و" سيدي بلعباس" و" خان أيوب" و" شمس شيراز" و" حديقة روبنز"و " بخارى"و " اوبرفيلييه"و " وادي العقيق...الخ
و يبدو لنا إنّ كثرة ترحال الشاعر ليسَ في أوطانه العربية وحسب ولكن في أوروبا سبب واضح لغنى الشاعر بصور المكان وتفاصيلها. ويبدو إنّ في هذا طريقة نفسية لإشباع ذات الشاعر المتلهّفة للوطن في مقام ما ، ولإغناء لاوعيه بتدفق الصور المكانية.
يبين سعدي علاقته بالتجوال في أوربا قائلاً إن "علاقتي بحواضر أوربا هي علاقة العابر المدقِّق.أي أنني أريدُ أن أرى ، لكنْ بحريةٍ قد لا يمتلكُها المقيم."و يقول حسونة المصباحي إن سعدي كانَ يتجوّل في أحياء باريس الفقيرة يلتقط منها صوره ويتخمُ ذاكرته بهويته الشيوعية الأولى تاركاً تلك الآثار الفخمة لقصر فارساي واللوڤر.
ولغربة سعدي قصةٌ طويلة كانت تطارده لعنتها منذ شبابه ولكنه غادر العراق نهائيا بسبب الأوضاع السياسية وسيطرة البعث على مقاليد الحكم في العراق، منتقلاً إلى بيروت التي أصبحت لاحقاً أحّد رموز الاضطراب في الشرق الأوسط.و من حربها الضروس إلتقطُ سعدي صور الخراب والأسى والإنهيار وحين غادرها ظل متنقّلا بين الدول العربية دونَ أن يجدَ جنّته المُثلى حتى وصل لندن وهي منفاه المحبب الذي قال إن حياته في هذه المدينة مطمئنة "وربما اكثر فترة في حياتي كلها اطمئنانا" بل "إنني أجد نفسي مطلق الحرية "فيها.فاستقر في قرية هيرفيلد الواقعة في هيلينغدون في انجلترا وقد كانت هذه القرية مثار إعجاب سعدي حتى أنه عَنونَ ديوان باسمها وهو قصائدُ هيرفيلد التل.
الضجّة التي أحدثها سعدي
سعدي وبسبب مواقِفه السياسية ضدّ النظام البعثي وما بعده وغربته عن رفقاءِ دربه وأرضه الأم صارت آرائه أكثر قسوة. فأخذ ينتقد ما يجري في الساحة الأدبية والثقافية والإجتماعية ولذلك أثارت انتقاداته هذه زوبعة من النقاشات والجدال التي لم تنتهي حتى بعد وفاته في منفاه اللندني الوثير.و يبدو لي أن تلك الضجة كان سببها سياسي-ديني في جوانب معينة أكثر مما كانتْ ذات توجّهات وطنية أو نقدية أدبية.
ومثل هذه الضجة ليست جديدة بل تكاد تكون ظاهرةً، فحصلَ ما حصل لعلي الوردي إثر نشره كتاب وعاظ السلاطين،و شريعتي إثر ذيوع آرائه التي جابهت مزاجَ التقليديين من المنتفعين من جهل الناس وقصور نظرهم ونفس الهجمة تعرض لها نصر حامد ابو زيد في مصر على إثر نشر كتابه الثوري "نقد الخطاب الديني".
كُل هذا الاحتجاج -الذي يمكن أن يتحول الى عنف أحياناً -حول ما يطرحه المفكرون والمبدعون غير ذات فائدة لأنه مفرّغ من الرؤيا مسبقاً ومن يؤججه يبدو أنه مستفيد من بقاء الأحوال الفكرية والثقافية للناس على ما هي عليه.
فهؤلاء المستفيدون -و هو دأبهم أمام كل جديد- دائما ما يحرصون على التنكيل بِكل من يأتي بجديد سواء في الفكر أو الأدب أو الفلسفة،و قد يَستخدم هؤلاء العنف إذا ما رأؤا إنّ الأمر يتطلب تصفيةً أبديّة ولنا بذلك الحدث المفجع لفرج فودة وحسين مروة دليل وعبرة. فماذا فعل هؤلاء الرجال أقول : لم يفعلوا شيء سوى أنّهم حاولوا تغيير مفاهيمنا حولَ التراث ومناهج التاريخ ومفاهيم الحداثة وضرورة إدخال تجديداتٍ في كثير من مناحي حياتنا. وكل محاولاتهم كانت سلمية ويمكن نقدها أيضاً بشكل منهجي ودقيق كما فعل الكثير من العلماء والمفكرين الأفاضل دون الحاجة للعنف أو الإحتجاج والتفريق.
التمرّد لدى بعض الشعراء
إنّ سعدي شاعرٌ وطبيعة الشاعر أحياناً تميل إلى التمرّد والكبرياء ولنا في تاريخ الشعراء خيرُ دليل وأقوم حُجة ! فأنت مثلا إذا قرأتَ عن الشعراء لابدَّ وأنْ تجد فيهم تلك الصفة المتمردة والخيلاء.فهذا المتنبي مثلاً هو الشاعر المأخوذ بعظمته وكبريائهِ وشعوره المولع بضرورة حصوله على سلطةٍ ما، وهو الذي يعتقد في ذاته أنّه يستحق الأفضل،و إن لم يجد التقدير في مكانٍ ما هجره وارتحل.و لنا في الجواهري مثال ثانٍ بارز في العصر الحديث،فإنه ورغم وطنيتهِ الواضحة،كان يعتقد بأهمية تسنّمه المنصب اللائق بهِ.
في النهاية أقولُ أنني وغيري لسنا معنيّين بالحكم على مواقف سعدي السياسية والثقافية من حيث مُطلق صوابها أو بطلانها فتلك المواقف شخصية تحتمل كل الإحتمالات وبالتأكيد للشاعر أسبابه المقنعة التي آمن بها وجعلته يدلي بما أدلى به.و ما علينا إلاّ التأمّل بما أنجزه غاضينَ النظر قدر الإمكان عمّا كان يؤمن به.
كمال أنمار.. كاتب نشر العديد من المقالات والنصوص النثرية في الدوريات والمواقع المحلية والعربية.