ثقافة
لا يزال المرء بحاجة إلى بعض الفوضى في داخله حتّى يتمكّن من إنجاب نجم لامع
نيتشه
مع تأسيس الدولة العراقيّة، وصعود موجات التحديث الثقافيّ والفنيّ في البلاد، وانخراط جمع من المبدعين في التعبير الذاتي عن مظاهر المجتمع؛ بدر شاكر السيّاب متغنّياً في قصيدته بأعين الجميلة التي هي كـ "غابتا النخيل"، وجمع من الرسّامين العراقيّين مجسّدين لحالات من وجود المرأة العراقية الفاتنة والمنتجة في المدينة، وصانعة الحياة في البادية، والمتأملة في حوشها تتدلى من بين خصلاتها أقراطها الملوّنة.
في لوحات حافظ الدروبي (1914-1991) وخالد الجادر (1922-1988) واسماعيل الشيخلي (1924- 2001)، ومن بعدهم فائق حسن (1914- 1992) وجواد سليم (1919-1961)، حضور طاغٍ للمرأة التي هي متن للوحات، الهامش فيها الموجودات الأخرى في اللوحة.
بيان جماعة بغداد للفنّ الحديث الأوّل الصادر العام 1951، أشار نصّه إلى "مدى الوعي للشخصية المحلية .. التي ستضاهي مكانة غيرها في ميدان الفكر العالمي"، بمعنى أنّ هناك تفكيراً بشخصية الفرد وبخصوصيته العراقيّة؛ لذا جاءت أعمال أغلب الفنانين مؤثّثة بالملامح العراقيّة للنساء والرجال معاً، فظهرت لنا عباءة النسوة البغداديات وألوانهن وعلاقتهن بالنباتات والحيوانات في قدحة حداثيّة هي الأولى منذ تأسيس الدولة العراقيّة بعد العام 1921.
مباهج بالأبيض والأسود
في عالم الفوتوغراف العراقي الذي تصدّرت فيه اشتغالات المصوّر العراقي الرائد لطيف العاني خمسينيات القرن الماضي، لمعت صور النساء العراقيات سواء في المدارس الإعدادية أو في محطّات الإنتاج، كانت صوراً بالأبيض والأسود لكنّها حملت بُعداً عن المجتمع المتطلّع الذي بلغت عنده الطموحات ذروتها قبل أنْ تبتلع السياسة روحه المتوثّبة وتُدخله في دوامتها منذ أن بدأت الانقلابات العسكريّة في العراق.
نساؤنا بالأبيض والأسود، هي صور عن مجتمع حاول الإمساك بأحلامه وارتفعت رغبته بأن يقدّم رموزاً متحضرة، جاء ذلك في زمن التزام الناس فيه بإشارة المرور ثابت وهندامهم لفتَ البصيرة إليه.
هذه المشهديّة الأنيقة لنساء العراق بين الخمسينيات والستينيات، كانت تمثيلاً لقدحة حداثيّة ثانية، أراد فيها المجتمع أن يوثّق ارتباطه بالعالم الآخر المتحضّر، بدءاً من موضات الملابس وانتهاء برفعة الممارسات الاجتماعيّة ورقي المظاهر التي كانت تسير بهدوء وانتظام عاليين.
مشينا بالمرأة إلى الحرب
مع الانتقالة الحادّة في عراق الثمانينيات من القرن الماضي، بدأ عصر الحروب العراقي، حيث استبدلنا هنا اللمحات الحداثيّة ومساعي أسطرة "الشخصية المحليّة" بحفنة من أشعار الحرب التي تكتب بوحي من مسار فوهات البنادق، فتمّ مسخ مفهوم الاحتفاء بالأفراد إلى تطويب المجتمع إلى جماعات من المطبّلين والمستسملين الصامتين وأخيراً الرافضين المغادرين لوطنهم إزاء ما حصل.
"مشينا للحرب" كلّنا، كما تقول الأنشودة الشهيرة من ذلك العراق المسلح، إلا أنّ المرأة أوّل المشائين إلى هذه الحرب وأكبر المتضرّرين والخاسرين في المعادلات الاجتماعيّة والاقتصادية، أمّاً وزوجةً ورهينةً لانتظارات العائدين من خنادق الجبهات.
يومذاك، أخذت الصورة الأيقونيّة للمرأة بالانسحاب إلى الوراء، لتتقدّم صورة حزينة بوشاح أسود وبلهاث يومي من أجل العيش في واقع قذف بضحاياه وأهلهم إلى المجهول.
انكفأت الملامح الفرحة ولاحتها التجاعيد مع اشتداد القبضة على الحياة باسم الحزب الواحد واللون الخاكي الذي غطى الميادين أجمع، هكذا وأدنا الرِفعة الأنثوية الواثقة التي حصدناها من منتصف القرن الماضي.
نساء المحتوى الهابط
أسهمت الحياة السياسيّة العراقيّة بعد نيسان 2003 بضرب منظومة القيم الأخلاقيّة، حينما شجّعت على نشوء الجيوش الالكترونية، تبعتها بعض السفارات العاملة في العراق بدعم مدوّنين وناشطين ينشرون هاشتاكاً معيّناً وبوقت واحد، من هنا تأسّس المحتوى الهابط، حتّى قبل أن يكون مصطلحاً يجري تداوله في المنصات الإعلاميّة وفضاءات السوشال ميديا، بعد إطلاق وزارة الداخلية لحملة ملاحقة لأصحاب هذا المحتوى، وبلا سؤال جدي من الذي غذّى توحّش هذا المحتوى وساعد على تمرير انحطاطاته إلى مسامع المجتمع ككل.
شهدنا انتفاخاً ليس في بعض الملامح النسائيّة المحقونة فحسب، إنّما في حجم المتهافتين مع هذا النكوص عن البراءة الاجتماعيّة التي عرفناها على طبيعتها وعفويتها في أرشيفنا الفوتوغرافي.
ثمّ وفي لحظة مفاجئة للسياق العام المتغافل عمّا نحن فيه من وقائع، تلتفت السلطة إلى الأخلاق، في بلد غارق بالأزمات، من حالات انتحار نتيجة ضغوط نفسيّة شديدة تلاحق شابات وشباناً غدرت بهم ظروف الحياة، إلى النسب المتصاعدة للمتعاطين والمروّجين للمخدرات في البلاد، تركنا ذلك كلّه وأصبحنا في غفلة من الزمن أمام عرض سريع ومرتجل لحراس الأخلاق، بينما منظومة القيم في دولة ما بعد 2003 كلّها تعرّضت لهزّات قاسية ومتكرّرة.
هبوط المحتوى، بوصفه ظاهرة نشاز وحصيلة واقعيّة لارتدادات سياسيّة واجتماعيّة على مستوى من يساوم ويقدّم العروض ويشتري الهدايا في الكواليس، أو من يصفّق من أفراد المجتمع برفع مستوى المتابعة لصفحة صاحب/ة الهبوط على الفيسبوك والأنستغرام بنحو أساس.
لذا صار بعض الجهلة وقليلو الوعي والثقافة، يتسيّدون الميديا العراقيّة في ظلّ انسياق أشاع التفاهة وروّج لها بسرعة التفاعل والـ Share الذي يوصل المضمون الرديء إلى عموم الناس في زمن الحداثة الرقمية، ليتكرّر فعل الوأد بتغييب أخبار المكافحات في مجالات عملهن والرصينات بما يقدمنّ..
نعم، إشاعة التفاهة مرفوضة ومواجهتها التي لا تكون بالقبض على المشاهير من هؤلاء، إنّما بتعامل أكثر نجاعة وببرنامج عملي يسوّق للمجتمع شخوصه الناجحين وشخصياته الكفوءة من النساء والرجال.
من تستحق أن تكون الترند
للأسف لم يكن هناك عمل إعلامي ومدني منظّم يحتفي بالوجوه التي تستحق أن يشار إليها؛ لكي تتصدّر مساحات التداول بين المجتمع، ولأنّ شخوص المحتوى الهابط الذين توجّهت إليهم السهام قبل شهر تقريباً في غالبيتهم من النساء، لا بدّ من تجديد التأكيد على أنّ لدينا العديد من الأسماء الناجحة من الطبيبات والمهندسات وحتّى صانعات المحتوى الهادف، لكنّ زبائن المحتوى الهابط من ساسة ورجال أعمال وطيف عساكر ممّن تتباهى هذه أو تلك بعلاقتها بواحد منهم في فيديوات مسجلة، فضلاً عن أصناف من الجمهور الذي يفتقر إلى النضج والحصافة، فرضوا شيئاً مما يصح تسميته بـ" الهبّة المظلمة"، سواء عبر الدولار الذي يُدفع في الخفاء أو عبر صعود هذه النشازات إلى ترند اللحظة الفاسدة في العراق.
كلّ ما ذُكر فاقم من صعوبة الحل، من دون أن يكون ذلك سبباً لإلغاء التفكير ببداية لمواجهة شاملة بأدوات عقلانيّة وبخطاب ثقافيّ مسؤول، يوسّع من مساحة الأضواء على تجربة معمارية شابة صمّمت فكرة بنيان جديد يقصّر من عمر الخرائب التي تحيطنا، أو قائد طائرة تصعد إلى أعالي السماء بشعرها المنسدل، أو طبيبة ناجحة تتصدى بحزم لسلوك مشين من مرافقي مريض من أولئك الذين يتوعدون ويهدّدون الملاكات الطبيّة بين حين وحين.
هذه النماذج من النساء، هي من تستحق أن تكون ترند المرحلة، وإن كان هذا غير قابل للتحقق الآن، إلا أن التخطيط فعل نبيل تتكامل فيه عوامل النجاح بالإصرار.
تنمر أصفر
في عصر الصور الملوّنة، نور صبري، نجم كرة القدم العراقي، تباهى قبل أسابيع بتخرّج ابنته معلّقاً على صورة له معها: "دكتورتي وبنيتي الحلوة"، فثارت ثائرة المعلّقين بكم غير قليل من التجاوز والإساءة والتنمّر، ويضطر الكابتن إلى حذف الصورة من الفيسبوك وإقفال التعليقات عليها في "الأنستغرام"، والحجة مخالفة الشريعة والعادات والتقاليد.. بمثل هذا الهجوم الأصفر الدوافع على من يفتخر بابنته، يُراد أن نئد بناتنا وأخواتنا وأن نوصد الأبواب عليهن.
قبالة ما نسمع ونرى، لا تقلقنا أزمات الكهرباء والخوف من انخفاض أسعار النفط التي يعتمد عليها رزق البلد بأكمله، الذي يُقلق أكثر أنّ بيننا من لا يستحي أن يقال عنه إنّه بلا أخلاق.