ثقافة
لقد تعددت المناهج الأدبية النقدية، وكان أول هذه المناهج هو المنهج التاريخي الذي شغل تفكير مجموعة من النقاد والأدباء، وطبع مجموعة من دراسات الأدبية التي حاولت تسليط الضوء عن الشعراء والمبدعين وتناولت حياتهم والمؤثرات التي كان لها تأثير في أدبهم ، لأن الأدب يتأثر بالوسط فيعكسه ، ويعد المنهج التاريخي المنهج الذي يربط الأدب بالعصور السياسية والفترات التاريخية المختلفة من جهة، أو يربطه بعلم التاريخ على أساس أنه الإطار السياقي العام الذي يتحكم في الإبداع الفني والجمالي والأدبي من جهة أخرى [1].
ويستند المنهج التاريخي إلى علم التاريخ بصفة خاصة على أساس أنه الإطار العام الذي يحدد المادة الأدبية تحديدا شاملا ووافيا وكاملا ، وينظمها بشكل علمي دقيق ورصين ، ويعني هذا أنه لايمكن فهم الإبداع الأدبي إلا بربطه بظروفه التاريخية العامة والخاصة ، وتحديدا السياق التداولي والمرجعي والتاريخي الذي يتحكم في هذا الأدب .[2]
ومن رواد المنهج التاريخي ندكر: سانت بيف الذي ركز على شخصية الأديب ، إيمانا منه بأن كما تكون الشجرة يكون ثمرها أما برونتيار الناقد الفرنسي آمن بنظرية التطور لدى داروين متمثلا الأنواع الأدبية كائنات عضوية متطورة إضافة إلى غوستاف لانسون وهو الرائد الأكبر للمنهج التاريخي [3].
لقد دفعتني مجموعة من الأسباب لاختيار المنهج التاريخي، ليكون السبيل الوحيد للكشف عن خبايا القصيدة التي على قيد التحليل ، لأن النص هو من يفرض علينا المنهج وليس العكس ، ومن خلال القراءة الأولى يتبين أنها تصب في نهر التاريخ ،تحاكي الزمان والمكان ،والعرق، كما هو معروف أن هذه المكونات تجتمع في المنهج التاريخي.
قبل خوض غمار بصحبة الفرزدق وذلك من خلال قصيدته الميمية " هذا الذي تعرف البطحاء وطأته " يتبين أنها قصيدة محافظة على أصول الشعر العربي ، شطرين المتناظرين والروي الموحد .
إن السؤال الذي يفرض علينا نفسه الأن هو من الفرزدق ؟هو همام بن غالب بن صعصعة ابن ناجية بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع بن دارم الذي كني بأبي فراس ولقب بالفرزدق لضخامة وجهه ولد سنة 25ه //641م أبوه غالب سيد بادية بني تميم من الأجواد الأشراف وأمه ليلى بن حابس أخت الصحابي الأقرع بن حابس الذي يعد من سادات العرب في الجاهلية ، وجده صعصعة عظيم القدر دائع الصيت ، أشتهر الفرزدق بالنساء فكان زير غوان فتعددت زوجاته ، عاش الشاعر حياته منتقلا بين الخلفاء والأمراء والولاة ، يمدح واحدهم ثم يهجوه ، ثم يمدحه وكان شديد التشييع الأل البيت يجاهر بحبه لهم مشبوب بالعاطفة تجاههم ، جامح الخيال في مدحهم لايخشى عوادي لزمن .
مات الفرزدق سنة 114ه _ 733م لكن شعره خالد فقد دكر عن أبي عبيدة أنه قيل لجرير كيف شعر الفرزدق، فقال كدب من قال انه أشعر من الفرزدق .[4]
لقد نظمت القصيدة في العصر الأموي ،وقد قامت الدولة الأموية بعد انتهاء الخلافة الراشدة بمقتل سيدنا علي بن أبي طالب يوم 17 رمضان عام 40 ه ، ويعد بدء الدولة الأموية من تنازل الحسن بن علي رضي الله عنهما لمعاوية بن سفيان رضي الله عنهما في (مسكن ) يوم 25 ربيع الأول عام 41 ه واستمرت حتلا معركة الزاب التي جرت بين جيوش العباسيين وبني أمية حيث هزم مروان بن محمد آخر الخلفاء الأمويين وذلك في 11 جمادى الأولى عام 122 ، دامت هذه الدولة ما يفوق إحدى وتسعين سنة ، وقد توالت عليها أسرتان وكان خلفاؤها اثنى عشر خليفة .
الأسرة السفيانية وقد حكمت أربعة وعشرين عاما ، وتوالى عليها خليفتان هما معاوية بن أبي سفيان ويزيد بن معاوية [5] .
وتميزت تلك الفترة بحكم الخليفة الوليد بن عبد المللك ، ولد سنة خمسين لهجرية الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكان طويلا أسمر ، به أثر جدري خفيف ، أفطس الأنف ، يتبختر في مشيته ، نشأ في الترف فكانت لغته ضعيفة ، تزوج ابنة عمه بنت عبد العزيز بن مروان فولدت له عبد العزيز ومحمدا ، وتزوج امرأة فزارية فولدت له أبا عبيدة ، ومن أولاده أيضا العباس وابراهيم وتمام وخالد وعبد الرحمان ومسرور ومروان وصدقة وعنبة وعمر وروح وبتر ويحيى ومنصور ومبثر فكان عدد أولاده الذكور تسعة عشر ولدا[6] .
وحدثت في أيامه فتوحات واسعة في المشرق والمغرب والأندلس وفرنسا ، وكان يرسل في كل غزوة إلى بلاد الروم أحد أبنائه.[7]
قام الوليد بما عليه خير قيام، فكان يريد أن يعيد للإسلام مجده ، فاتخذ وسائل ، منها الفتوح لنشر الإسلام وإذاعته ، العمارة والبناء والإنشاء، تنمية موارد الدولة وبتوسيع الزراعة وتحسين الاقتصاد .[8]
اهتم الوليد بن عبد الملك بالفقراء فمنع التسول منعا باتا ، وقال : إن في بيت مال المسلمين ما يكفيهم ، وأطلق لهم المال منه، ونشط الاقتصاد، والاقتصاد مبني في ذلك العصر على ما تعطيه الأرض من ثمرات ، فأصلح الأراضي[9] . كانت الأوضاع في عهد الوليد بن عبد الملك هادئة في الولايات كلها حتى أن أمر الخوارج قد ضعف ولم تقم حركة تذكر في أيامه سواء أكانت من الخوارج أم من قبل غيرهم .[10] حدثت فتوحات عظيمة أيام الوليد بن عبد عبد الملك لايمكن مقارنتها إلا الفتوحات التي تمت أيام عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان رضي الله عنهما بل إن الفتوحات الاسلامية لها قسمين أولاهما أيام الراشدين والثانية أيام الوليد ، وقد اتسمت هذه الفتوحات بامتدادها على مختلف الجبهات .[11]
وكانت الجيوش الاسلامية تتقدم في أرض الروم ، وتفتح بعض الحصون ،وتغنيم الغنائم ، ويكون التقدم أحيانا واسعا إلى عمق كبير في أرض العدو [12]
توفى الوليد في منتصف جمادى الآخرة سنة ست وتسعين وبويع بعده أخوه سليمان بن عبد الملك ، وكان عامله على الرملة، وفكر الوليد في أخد البيعة لولده عبد العزيز وخلع أخيه سليمان ولكنه توفي قبل أن يقدم على ذلك ، ووافقه في هذا الأمر كل من الحجاج ، وقتيبة بن مسلم الباهلي وامتنع عليه عمر بن عبد العزيز
وقال له : لسليمان بيعة في أعناقنا .[13]وعموما لقد تميز العصر الاموي بمجموعة من الحروب والفتن من أجل الظفر بالخلافة ، كما شهد هذا العصر فتوحات وتوسعات كبرى ، كما أنه عصر ازدهر فيه العلم، وبرز فيه مجموعة من الأدباء والشعراء .
لقد نظم الفرزدق قصيدته لتكون ردا قويا لهشام بن عبد الملك الذي ستولى الخلافة فيما بعد ولد هشام بن عبد الملك في دمشق عام 72 ه ، وأمه عائشة بنت هشام بن اسماعيل المخزومي ، كان جميلا أبيض ، ذكيا له بصر بالأمور جليلها وحقيرها ، وكان فيه حلم وأناة ، يعرف بالبخل ، ويكره سفك الدماء [14].
تزوج هشام بن عبد المللك أم حكيم بنت يحي بن الحكم فأنجبت له سليمان أبا العمر الذي قتله أبو العباس السفاح ، ومسلمة ، ويزيدا ، وسعيدا ، ومحمدا ، وتزوج أم عبده بنت عبد الله بن يزيد بن معاوية بن ابي سفيان فولدت له يحيى ، وعبد الله .وتزوج أم عثمان بنت سعيد بن خالد بن عمرو بن عثمان بن عفان فولدت له مروان [15].
تتمحور القصيدة حول مدح الفرزدق لعلي بن الحسين زين العابدين ، وإبراز عظمته لكونه ينتمي إلى أهل البيت ، كما أن الممدوح يجسد مجموعة من المعاني الجليلة والقيم النبيلة كلها دفعت الفرزدق ليجعله محور قصيدته الميمية وكذلك يرد على هشام بن المللك الذي ادعى أنه لايعرف زين العابدين فجاءت القصيدة كسلاح لمن الشعر سلاحه فعرف زين العابدين أصله ونسبه الشريف وخصاله الحميدة .
تنقسم القصيدة إلى مجموعة من الوحدات فنجد في:
الوحدة الأولى :
يعرف الفرزدق زين العابدين باعتباره معروف في مكة المكرمة ومواقع الحل والحرم ، كما استعمل اسم اشارة لدلالة عن قربه من الناس وهذا التعريف تخلله الوصف فنجد قريحة الفرزدق تتدفق بعبارات ترفع من مقام الموصوف وتظهره في أجمل وأرقى الحلل .
الوحدة الثانية :
يتمرد الفرزدق على هشام بن عبد المللك ويرسل له خطابا مضمر بين ثنايا قصيدته يحمل كلمات أقوى من الخنجر مفادها أن تجاهل معرفة زين العابدين لن ينقص شيء منه لأن العرب والعجم تعرفه وتعرف نسبه الشريف، وهنا كما لو الفرزدق يعقد مقارنة ليقول لهشام أن نسبك غير معروف ولا يصل لمقام زين العابدين.
الوحدة الثالثة:
يبين الفرزدق أن زين العابدين يقاسم الناس همومهم الثقيلة ، كما أنه لايقول لا إلا لتشهد وإعلان وحدانيته ،وهذا يدل على رحابة صدره وطيبة قلبه، وهي خصال أراد الفرزدق أن يعرف بها الجميع لذلك رسخها في قصيدته وكتبها بماء من المحبة لزين العابدين وأل البيت
ليمدح همام بن غالب التميمي الفرزدق علي بن الحسين بعد انتهائه من طواف الكعبة امتطى ركاب البحر البسيط مستفعلن مستفعلن فاعلن ، بسيط في وزنه عميق بمعانيه الصادقة التي نسج منها بور تريا لممدوحه علي بن الحسين بن علي بن ابي طالب ، فعندما فزنا بفهم بعض معاني القصيدة نحن الان في طور الاستماع الى موسيقى الشاعر التي بها نستوعب المعاني الخفية في حروف كلامه المنظوم بروي الميم .
وهو شفوي مخرجها باطن الشفة العليا مع باطن السفلى فيه إشراك للخيشوم لأن الميم لاتكتمل إلا بالغنة التي مخرجها الخيشوم ، هذا الحرف الذي يتميز بصفات قوية وهي الجهر بمكارم واخلاق ممدوحه الذي اسال المداد الكثير في تعداد فضائله وخلقه وشيمه ينبوع المحبة والتقوى الذي روى أهل ارضه وأعدى رفاقه ببلية الايمان وحب الله .
واذا عرجنا على الايقاع الداخلي وقفا عند التكرار بكل أنواعه الكلمات الله نعم حلو الشيم الاسد الامم قريش.
الحروف : الفاء والواو والميم .
الجملة :هذا ابن
الترادف :النقي \الطاهر
مكارم \ شيم
التضاد : تعرف \تنكر - بغضهم \ حبهم
للشعر العربي أنفة لايعرفها الا هو، هو سيدا النظم فيه مرآة عاكسة للروح العربية، العربي الذي ترعرع في رمال الصحراء الجاحفة وشرب من منبع القوة، تسللت نفحات الريح الصحراوية إليه ، وجعلت منه شاعرا فحلا صعب المراس شأنه شأن صحرائه الوعرة التي لا ينفلت من قبضتها ، إلا أسد جامح جأش وطويل النفس ، فتطبع الشاعر بطباع صحراء واتسعت أخيلته باتساع المكان، فصقلت قريحته وانفجرت منها سيول المحسنات البديعية والصور الشعرية ، التي روت عطشنا للكلمة الحية والفرزدق هنا توسل بصور شعرية ساهمت في ايصال معانيه ،وتثبيت معالم بورترية في هذه الصور نجد :
الكناية : كلتا يديه غيثا
كناية على كرمه الذي لا ينقطع وتشمل عطاياه كل من صاحبه ورافقه .
المجاز: ينشق ثوب الدجى من نور رعيته .
نجد الشاعر هنا يصف ظهوره بالنور المنبعث من السماء الذي يخفي ظلمته اليل الدامسة وهنا فيه مبالغة مستحبة
التشبيه :كالشمس
شبه ممدوحه بشروق الشمس التي تدهش العقول لرؤيته ، وتنفطر الأفئدة أمامه حيث تختفي عتمة الليل وتعانق أشعة الشمس ثوب السماء .
الطباق :
الدين \ الكفر
الجناس الغير تام:
النقي \ التقي
الحل \الحر
لا طالما كان الشعر ديوان العرب والمرآة التي تعكس ما يخالج داخلهم من أمل وفخر وإرادة في الحياة ، وشاعريتكلم بلسان قبيلته متمردا على من يحاول أن يحط من قدرها ، لذلك يعتبر الشاعر سلاح قبيلته والناطق الرسمي لها ، والقصيدة التي بين أيدينا لشاعر مميز يمثل العصر الأموي ، له قريحة شعرية أصيلة وقوية ، وحبه لزين العابدين جعله ينظم ويستقي أجمل الكلمات التي تليق بمقام ممدوحه الذي ينتمي لأل البيت الشريف ، وهذه القصيدة تعكس شاعرية الفرزدق ، فنجده استعان بالبحر البسيط الذي تناسبت تفعيلاته مع الغرض الشعري، الذي هو غرض المدح، ولا يخفى عن أحد أهمية هذا الغرض في الشعر العربي عامة وفي العصر الأموي خاصة، ومن أجل اضفاء طابع جمالي خاص استعمل صورشعرية بلاغية في قمة الابداع لتؤكد عن شاعريته وفي نفس الوقت تحط من الخصم الذي وجها له الخطاب وهو هشام بن مالك ، كما أن هذه القصيدة تطغى عليها الجمل الخبرية ، لأن الفرزدق يجهر ويخبر القارئ عن صفات زين العابدين ، وقد حاولنا تحليلها بالمنهج التاريخي شيء الذي أخدنا للبحث عن ثنايا تاريخ الدولة الأموية والخلافة التي كانت في عصمة وليد بن الملك.
[1] جميل الحمداوي المنهج التاريخي في النقد الأدب العربي الطبعة الأولى سنة 1917 ص 10
[2] جميل الحمداوي المنهج التاريخي في النقد الادب العربي الطبعة الأولى ص10
[3] أحمد زكي بدوي معجم مصطلحات العلوم الاج ط2ص 195 بتصرف
[4] ديوان الفرزدق
[5] محمود شاكر التاؤيخ الإسلامي العهد الأموي الطبعة الثانية ص 53
[6] محمود شاكر التاريخ الاسلامي العهد الأموي طبعة الثانية ص 213
[7] محمود شاكر التاريخ الاسلامي العهد الأموي طبعة الثانية ص316
[8] يوسف العش الدولة الأموية الأحداث التي سبقتها ومهدت لها ابتداء من فتنة عثمان ص243
[9] يوسف العش الدولة الأموية الأحداث التي سبقتها ومهدت لها ابتداء من فتنة عثمان ص 246
[10] محمود شاكر التاريخ الاسلامي العهد الأموي الطبعة الثانية ص 225
[11] محمود شاكر التاريج الاسلامي العهد الأموي الطبعة الثانية ص 221
[12] محمود شاكر التاريخ الاسلامي العهد الاموي الطبعة التانية ص 221
[13] محمود شاكر التاريخ الاسلامي العهد الاموي الطبعة الثانية ص 215
[14] محمود شاكر التاريخ الاسلامي العهد الأموي الطبعة الثانية ص 265
[15] محمود شاكر التاريخ الاسلامي العهد الأموي الطبعة الثانية ص 266