رأي
حديثي هنا عن الاستخدام السيء للإعلام، ليس الآن وليس القريب قبل الآن، وليس البعيد البعيد قبل الآن وما بين قوسين "حقبة النظام الدكتاتوري" الذي حكم العراق للفترة من السابع عشر من تموز 1968 وحتى التاسع من أبريل 2003.
بداية لقد تحول الإعلام المقروء في أغلبه إلى إعلام مرئي، ممثلا بما يطلق عليه الفضائيات. ولي محاضرة بهذا الصدد، عنوانها "الفضائيات والعقل المركزي للصورة" ألقيتها في جامعة طهران عام 1998 على هامش مؤتمر القمة الإسلامية في طهران مع مجموعة من خبراء الأعلام – يمكن الرجوع إليها"
في العراق حسب إحصائيات قريبة، توجد ما يقرب من سبعة وخمسين فضائية منها أربع وثلاثين فضائية ذات أبعاد دينية أما شكلا ومضموناً أو شكلا. وبقية الفضائيات تتوزع بين ما يسمى مجازاً الليبرالية أو قنوات ذات هدف خفي تابع لبقايا نظام الدكتاتور الأرعن أو ذات بعد عرقي أو مكوناتي. أو قنوات ممولة من دول الجوار التي ترصد العراق من أجل الانقضاض عليه يوما كما سوريا وإبعادها عن الجامعة العربية سيئة الصيت، أو القوى التي لا تريد الخير لهذا الوطن. وكل هذه الفضائيات لها صحون فضائية وأجهزة "أس أن جي" منتشرة في أرجاء الوطن هدفها الاستقبال والبث وأغلبها في فضاء العاصمة العراقية وقريبة من مقر ديوان الرئاسات ومراكز الأمن والمخابرات والاستخبارات. وهذه الصحون الفضائية تستقبل ما لا يسمع وتبث ما لا يسمح!
القنوات الفضائية تأسست بدون قانون ينظمها. فهي تتأسس وتبني صحونها الفضائية العملاقة، وأجهزة بثها عشوائيا مثل كل شيء في العراق. ولأية قناة فضائية ثمة تأثير عبر الصوت والصورة. وللصورة المتحركة منذ أن تحركت بعد أن كانت ثابتة، عبر تاريخها في نهاية القرن التاسع عشر، لها تأثيرات " سيكولوجية وفيزيائية" ومن ثم عرفت بتأثيراتها الاجتماعية والاقتصادية الثقافية والسياسية.. إلى آخره، ولعل أخطرها التأثير الفيزيائي الذي عرفه خبراء الدولة العبرية وحلمها التاريخي في مؤتمر بال عام 1897 بقيادة "ثيودور هرتزل" ومن ثم تم استثمار الفضائيات للبعد الأمني السياسي، أضافة إلى البعد الفيزيائي!
البعد الأمني
ليضع أي شخص حول أذنه سماعة الطرشان المساكين "أو السعداء" ربما، وليقترب مسافة غير قليلة، بعيدة نسبيا، من مراكز الأمن والمخابرات والحواجز المسلحة وسوف يلتقط المكالمات اللاسلكية بين أفراد الأمن والشرطة والمخابرات. لأن سماعة الإذن فيها جهاز استقبال بحجم راس الدبوس، فكيف بالصحون الفضائية العملاقة في قدرتها على التقاط المكالمات وبثها أينما تشاء. فكم من أصوات ما سمي "التسريب" أصبح في متناول المستهدفين العراق سوءاً. إن الفضائيات هي حرب قائمة في داخل العراق بدون مقاومة. ذلك نابع من الحكم العشوائي والجهل المتأصل لدى الوزراء أو الرؤساء وسواهم. وهنا تأتي ضرورة إنشاء مدينة اعلام، تهيمن الدولة عليها، ومسؤولة عن البث، ومن خلالها الصعود على الأقمار الاصطناعية مع لوائح وقوانين واضحة تحمي المواطن والدولة وتحفظ أسرارها. وأن يتم اختيار موقعها خارج العاصمة ومراكز المدن، بمسافة لا تقل عن عشرين كيلو متراً. وللمدينة الإعلامية هذه مواصفاتها العلمية والقانونية الوضعية. إن سماعة الطرشان تحتوي في داخلها جهاز استقبال وبث بحجم رأس الدبوس فكيف بالصحون الفضائية العملاقة وأجهزة الأس أن جي؟!
إن ثمة تأثير فيزيائي للصورة المتحركة يتمثل هذا التأثير في أن كل صورة ثابتة تبقى في شبكية العين أقل من عشر الثانية لتولف بالصورة التي تليها فتتحول الصورة الثابتة إلى صور متحركة من خلال العين. وهذه الصور المتحركة هي بالملايين يختزنها العقل الباطن ويستدعيها العقل الظاهر في مجالات يصعب السيطرة عليها وتقود الإنسان إلى حالات لا يعيها ويتصرف كما الروبوت.
إن الطلقة النارية تقتل الفرد وتنهي حلمه وأمانيه في الحياة، أما الطلقة البصرية فإنها تحول ملايين الأشخاص إلى مجرمين وقتلة بدون وعي للجريمة لأنها مخزونة ومتفاعلة في الذات الإنسانية فيزيائيا. وإن كل ثانية بصرية تحتوي على أربع وعشرين صورة ثابتة تتحرك، كحقائق موضوعية في الحياة.
فما حاجة العراق إلى أكثر من سبعة وخمسين فضائية أولا؟! وما هي المسؤولية القانونية والأخلاقية لهذه الفضائيات التي تعبث في فضاء العراق وحياته على كافة الصعد؟!
لماذا لا توجد في العراق مدينة إعلامية بعيدة عن مراكز المدن حيث الدولة والوزارات وأسرارها؟ مدينة أعلام كما في كل أنحاء العالم. هولندا على سبيل المثال وهي دولة رصينة وخاضعة لكل السيطرات الأمنية والسياسية، توجد مدينة إعلام هي مدينة (HILVERSUM) منها تبث وتستقبل كل المواد البصرية. وهذه دول الجوار في كل منها مدينة إعلام دونما استثناء عدا البلدان المتأخرة وفي المقدمة منها الدولة العراقية.
وفق أية قوانين لأخطر أداة في التاريخ تتأسس القنوات الفضائية؟ وما هي شروط التأسيس؟ ومن هم الأشخاص المؤهلون أكاديميا ووطنيا واقتصاديا لتأسيس القناة الفضائية؟ وما الضرورة لكل هذه الفضائيات التي تبث الفكر السلفي والخرافي والفكر العشوائي، إذا ما عرفنا التأثير الفيزيائي على المتلقي، ناهيك عن التأثير الأمني الذي يستبيح الدولة وأسرارها، فإن ملفات الأمن زاخرة بجرائم الصورة وتأثيراتها؟
مذبحة "جامعة فرجينيا" هي حادث إطلاق النار وقع في 16 أبريل 2007 داخل جامعة فرجينيا بالولايات المتحدة الأمريكية قتل فيه 33 شخصا وجرح 28 وأنتحر مرتكب الجريمة ولم تعرف دوافعه حتى الآن.. كلا فالدوافع معروفة بسبب التأثير الفيزيائي للصورة وحجم الجرائم المعاد تصويرها عبر شاشات التلفزة.
وعلى ضوء ما حدث في جامعة فرجينا وما بثته القنوات التي صورت الجريمة بالكاميرات الخفية في الجامعة، وبعد أسبوعين قام طالب آخر بجريمة مشابهة بنفس المواصفات في جامعة ثانية.
إن ملفات الأمن في أنحاء العالم تحتوي على جرائم مطابقة للجرائم التي يجري تمثيلها وتقديمها من على شاشات التلفزة، وينفذها الأشخاص من خلال تراكم الصور التي تستقبلها العين وتخزنها في العقل الباطن، فالكثيرون ينفذون الجريمة دونما وعي.
في ملف الأمن المصري ما قام به سفاح المطرية الذي قتل أثنين وعشرين شخصا في ثلاثة شهور وحكم عليه بالإعدام، وعندما سئل هذا السفاح عن الطريقة التي كان يرتكب بها جرائمه قال، كنت أرتكب جرائمي مع جميع الضحايا بطريقة تعلمتها من الفنان عبد الله غيث في إحدى مسلسلاته الشهيرة. أيضا الجريمة التي قام بها طفل عمره خمس سنوات عند قيامه بسرقة سبعين ألف جنيه، قالت الشرطة أنها تندرج ضمن الجريمة المنظمة والكاملة. وقال الطفل الذي أرتكب جريمة السرقة أنه أتبع طريقة الممثل أشرف عبد الباقي في مسلسل الصبر في الملاحات. وفي أمريكا حاول الأطفال محاكات أبطال المسلسل الأمريكي "باور رينجرز" بأن يقفزوا من الطابق الرابع. وحاول طفل أن يشنق نفسه فوق شجرة بعد أن شاهد مشهدا مثيلا في فيلم الكرتون (LION KING) إن كثيرا من الجرائم التي تنفذ في الولايات المتحدة هي جرائم متطابقة لأحداث الجريمة أو المسلسلات التي تعرض الجريمة في قنوات التلفزة.. قليل منها ينشر في الصحف وثمة خفايا يمنع فتح ملفاتها؟!
لو درسنا الجريمة في العراق والتي بلغت في أرقامها العدد المخيف لعرفنا تأثير التلفزة على الحالة الفيزيائية للإنسان. ولذلك تأتي ضرورة تأسيس المدينة الإعلامية بالمواصفات العلمية والوطنية والقانونية. وإعادة تأسيس الفضائيات وفق معايير علمية ووطنية، لحماية العراق أمنيا، وحماية العراقيين فيزيائيا؟!
شبكة الإعلام العراقية
للعراق شبكة أعلام تسمى شبكة الإعلام العراقية. يديرها مجلس أمناء تشكل بشكل غير قانوني ناهيك عن الجهل الإعلامي لمجلس الأمناء إذ لم يتم انتقاء أعضاء المجلس وفق مبدأ الكفاءة. فهو مجلس أمناء باطل قانونيا، وما بني على باطل فإن قراراته باطلة.
الفضائية العراقية لا تبث البرامج بقيمة فنية مكتملة الشروط، وينبغي تجديد أجهزة البث وفق التطور التقني والجمالي.
الفضائية العراقية فيها ما يقرب من أربعة آلاف وخمسمائة منتسب. المنتسبون الفعليون حسب معطيات مديرية الحسابات لا يتجاوزون ثلاثمائة وخمسين شخصا، لأن البناية أساسا لا تستوعب العدد أربعة ألاف وخمسمائة شخص. ما يعني ذلك أربعة آلاف ومائة وخمسين شخصاً يتقاضون شهريا الرواتب من مديرية الحسابات ولا تواجد لهم في الشبكة الإعلامية أية صفة أداريه أو فنية أو تقنية. وهذا الرقم يستنزف تقريبا نصف ميزانية القناة التي تتجاوز المائة مليون دولار سنويا، والتي ينبغي استثمارها لتطوير البث تقنيا وتطوير مستوى البرامج الهزيلة التي قد لا يشاهدها غير منفذيها.
تبث القناة العراقية قناة كوردية.
يملك الكرد سبع قنوات فضائية بكل لغاتهم المحلية، فهم ليسوا بحاجة إلى قناة كردية من داخل شبكة الإعلام العراقية. ولا يشاهدونها فهي عبئ مالي وبشري واقتصادي على شبكة الإعلام العراقية. ولذلك ينبغي الغاءها وتقديم برامج عن الكرد باللغة العربية متى تقتضي الضرورة ذلك، مثل كل البرامج التي تبثها القناة.
مجلس الوزراء العراقي مطالب بدون تأخير بوضع مدينة الإعلام في الاتفاقية الصينية العراقية فبدون قوانين إعلام فضائية معززة بمدينة إعلامية سوف تبقى حرب الصورة المدمرة قائمة في سماوات العراق وعدد الضحايا يوميا غير مدون وغير معروف. وقبل ذلك إعادة تأسيس القناة العراقية، لأن كل ما يحصل الآن، يندرج ضمن الأداء السيء للإعلام في العراق.. وهو أمر ينطوي على مخاطر كبيرة غير محسوبة النتائج.
سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا