رأي

اللبن الرائب..!

اللبن الرائب..!

قاسم حول

(ياما وياما) طلبت من الأصدقاء أن لا يهاتفوني ليلا، بل ولا يرسلون لي رسائل عبر الهاتف تتعلق بالعراق والتدهور الحاصل فيه، والمتوقع مما يحصل فيه، لأن تلك المكالمات والرسائل تتحول إلى كوابيس مرعبة في مناماتي وأحلامي.

 

لم أتخلص بعد من الكوابيس التي كانت تداهمني أيام نظام الدكتاتور، ففي كل ليلة أتورط في منامي بالسفر إلى بغداد. لا أدري كيف ولماذا. فجأة أرى نفسي في بغداد، وأظل أنتقل من دار إلى أخرى ومن مقهى إلى آخر ومن زقاق إلى ثان في منامي وأرى صدام حسين بالملابس الداخلية وهو يمسك حجرا كبيرا يريد أن يفج به رأسي، وأظل أركض وهو يركض خلفي، ويركض وراءه شلة من القتلة يحملون الهراوات والمسدسات. كان ذلك الحلم يداهمني كل ليلة إبان حقبة الدكتاتور البغيضة، وعلمت بأن كل العراقيين المقيمين فيما تسمى بلدان الشتات، يداهمهم ذات الحلم وكل ليلة!

 

أنا لم أعرف شعبا يحلم حلما واحدا كل ليلة سوى شعب العراق! سقط نظام الرعونة الأبله وأنتجت عن حقبته البغيضة أجمل أفلامي هو فيلم "المغني"، وأتانا نظام ثان وبدأت تداهمني أحلام ثانية مختلفة، فيها عمائم على رؤوس المواطنين، وسيارات يخرج منها شباب تصورهم الكاميرات المعلقة في شوارع المدن وعلى أعمدة الكهرباء، ويتوجهون تحت ضوء الإنارة ويمدون البنادق نحو سيارات كبيرة ويعودون يمشون الهوينا، وهم يقهقهون أمامي وأنا لا أدري أي طريق يعيدني نحو المطار، فثمة صبات من الأسمنت والحديد تحيط بالمكان عالية نحو سماء الله، ولا منفذ بينها، ولا منفذ فيها يساعدني على الهروب!

 

أغلقت القنوات الفضائية العراقية في منزلي، وألغيت حسابي على مواقع التواصل الاجتماعي ورجوت أحبتي وأصدقائي، أن لا يرسلوا لي رسائل ومقالات عن العراق وحتى لا يرسلوا لي بطاقات جمعة مباركة فيها نخيل ومنائر وطيور وأغاني عراقية، ولا بطاقات جوري وياسمين وصباح الخير، ويتوقفون عن الرسائل وبشكل خاص ليلا. فأنا في عمر الاستراحة والتأمل وقد أعطيت من عمري للعراق كل عمري، وأكثر مما ينبغي، وأصبحت دائنا ولست مديناً.. فاتركوني أنام.. أرجوكم، أريد أن أنام نومة هادئة ولو ليلة واحدة بعيداً عن كوابيس الوطن، تداهمني في المنامات.

 

ليل الثلاثاء وردتني رسالة مطولة من الصديق القديم "المحامي أبو أنمار، مقالة عنوانها: المرجعية تحصل على ملف بالأدلة حول مخطط لإعلان الكفاح المسلح في تموز بالمدن الشيعية، جاء فيها: "وردتني معلومات تؤكد أن المراجع الدينية في النجف الأشرف تلقت أمس الجمعة ملفا كاملا بالأدلة المادية القطعية يكشف عن مخطط تقف وراءه أربيل لدعم إعلان الكفاح المسلح في المحافظات الشيعية منتصف شهر يوليو تموز القادم.. يقابله حسب الملف مخطط لتفجير عنف مسلح بدعوات من مجاميع يتم تجهيزها وتدريبها في كردستان، لإعلان الكفاح المسلح بذريعة فشل الحراك الثوري في تحقيق المطالب سلميا، الأمر الذي سيسفر عنه موجة اغتيالات واسعة، وإحراق مكاتب وبيوت وفوضى عارمة، وقد يتطور إلى فتنة اقتتال شيعي شيعي".

 

وقبلها بساعة، وردتني رسالة من الصديق أبو حمزة من أمريكا، رسالة معززة بصور قديمة وحديثة عن زيارات كردية إلى تل أبيب في إسرائيل، وتؤكد الرسالة امتداد الحراك الإسرائيلي من أربيل إلى داخل بغداد، وهناك الكثير من الإسرائيليين   يتجولون في شوارع العاصمة العراقية بمصاحبة الأكراد، بالرغم من تجريم الزيارات داخل البرلمان العراقي، وعقد محاور لجبهات إستراتيجية مع الأكراد خارج البرلمان. ولم أفهم ماذا يجري داخل العراق وخارجه، ولا داخل البرلمان وخارجه!

 

غطيت وجهي بالبطانية ونمت، لتبدأ المعارك في سماء الحلم. وبالتأكيد تصلني منها كثير من الشظايا حتى وصلت المعارك داخل مرقد الإمام الحسين وبدأ شباك الفضة يتطاير شظايا نحو الزائرين والمتشبثين بشباك الحسين، وذهب البوابات يذوب كما جحيم جهنم سائلا أحمر ويسري جداول حمراء جحيميه بين النسوة في صحن الإمام الحسين والنسوة يركضن خوفا، والناس تضرب رؤوسها بالفؤوس والدم ينزف من رؤوس الرجال والشباب، والمعارك بالأسلحة الثقيلة والخفيفة محتدمة، وتجد الشباب يطلقون النار ويختفون خلف أسيجة عباءات النساء، تداخلت بينهم شخصيات غريبة، مرة رجل كوردي بالشروال يشبه مسعود البرزاني وهو يضحك داخل المرقد الحسيني ومرة صورة محمود عثمان بالشروال وقد وضع العرقين الصغير على صلعته وهو عاري الصدر ويلطم، ويحتدم القتال لا تدري من هم الفرقاء، الكل يضرب بالكل، والجميع يقتلون الجميع.

 

أردت أن أفك النزاع وأفصل بين المتعاركين، أردت أن أضع في برنامج المونتاج بحاسوبي، نشيد موطني وصرت أسمع النشيد في الحلم، وأضعه نغما على مشاهد من تاريخ العراق الجميل، وصرت أبحث في أرشيفي عن لقطات من القيثارة السومرية وصورة لكتاب نهج البلاغة ومشاهد قديمة من نخيل العراق ولقطات من فيلمي الأهوار والطلبة يغادرون المدرسة ويجذفون بالمشاحيف لتتزامن مع كلمات نشيد موطني وأبثه على الفضاء، عسى يتوقف المتعاركون عن الاقتتال ويحبون الوطن من جديد، وحين أردت أن أحمل اللقطات السومرية ولقطات نخيل العراق والأهوار وكتاب نهج البلاغة، شعرت بأن يدي مخدرة ولا تستطيع الحراك، شعرت بها ثقيلة،   وحين مددت يدي الأخرى لمساعدتها لتحمل شرائط الأفلام القديمة، صرت "أون" وحين أردت مساعدة يدي باليد الثانية مسكت حيوانا لزجا غريبا قد لصق بها. وصرت أبكي.. فشاهدت أستاذ اللغة العربية الذي درسني في الخمسينات "مصطفى عباس" وقد جاءني بوجهه النبوي السمح، وقد سحب الحيوان اللزج اللاصق على زندي، وقال لي "شاهدت في مدخل سوق "الشورجة" شخصاً يبيع اللبن الرائب. ذقته فوجدت فيه لسعة حموضة. وأنا أحب الأشياء العراقية الصغيرة والأصيلة.. تعال معي نشرب اللبن الرائب ونضع عليه قليلا من الملح!

 

مقالات أخرى للكاتب