رأي
أمس، ولم يعد للتاريخ معنى، وفجأة وبعد أن استمتع صديقي "هاني حبيب" بمشاهدة فيلمي "المغني" وهو في غزة بفلسطين المحتلة، نقل في اليوم الثاني تحت وطأة أزمة قلبية، إلى مستشفى في مدينته المحاصرة، في وطن تم اغتصابه أمام مرأى ومسمع المجتمع الدولي، وما يمثله مجازاً عصبة أو عصابة الأمم المتحدة. واسمه فلسطين وذلك في الخامس عشر من شهر أيار عام 1948.
سألت نفسي ما الوطن؟! هل ألوطن أن لا يكون الإنسان خارج وطنه، أم أن لا يكون غريباً في وطنه؟ وما الفرق بين الفلسطيني وهو خارج أرضه، وبين العراقي وهو خارج أرضه. وما الفرق بين غربة الفلسطيني في وطنه، وبين غربة العراقي في وطنه، وما الفرق بين سلطة غريبة خبيثة "وخائسة" تحكم الوطن الفلسطيني وتبدل رايته ودستوره، وبين سلطة غريبة "وخائسة" تحكم الوطن العراقي وتبدل رايته ودستوره!؟ أو أن يكون الفلسطيني مثلي أو أن أكون مثله، حيث قضيت أجمل سني حياتي الإنسانية، مثل نخلة أو نخيلة فسيلية في سندان، يمكن أن يضعوها في الصالة أو في شرفة المنزل، أو حتى في مخزن البيت، ولم تكن قد نبتت في أرضها ورويت من رافديها وشاطئها العربي، وأنضجت قسوة شمسها، تمرها بعد أن نثرت شعرها عذوقاً، وحين يلسعك الحر، تستظل تحت سعفها فتأتيك نسيمات باردة تنعش ذاتك، لكن ما يطلق عليهم مجازاً رجال الأمن والمخابرات، يرصدونك عبر كل تاريخك الحديث، لذبح حريتك وأنت في بستان الوطن.. وطنك!؟
نحن أيضا في العراق مثل فلسطين المحتلة.. لا فرق.. نحن أيضا وطن محتل.. لا فرق بين جولدا مائير وموشي ديان ونتنياهو وبين صدام حسين وكل من حكم بعده .. فالأول المارقون منعوا الفلسطينيين من العيش في رحاب وطنهم، والمارقون الثواني منعوا العراقيين من النوم تحت وارف ظلال سعفات النخيل.. لا فرق، فالحرية واحدة أيا كان لونها، ومذبوحة من الوريد إلى الوريد أيا كان جزارها.
منذ تأسيس الدولة العراقية في مارس عام 1920 وحتى إشعار آخر تأسس الوطن العراقي فوق رأس دبوس، لا شأن لي ولا شأن لإبن السودان وابن أليمن الذي كان سعيداً يوما ما، ولا شأن لكل أبناء الوطن العربي وحتى لا شأن لإبن الخليج حتى في حضارته الصحراوية وتاريخه الإسلامي في الجزيرة العربية، ولا شأن لي حين كان لي يوما من الإيام قبل أكثر من سبعة آلاف عام أجداد لا أعرف أسم جدي المليون منهم، عندما اخترع الكتابة وعلم الناس الكلمات والحروف وحتى أصواتها، فيما أعيش اليوم في وطن تبلغ نسبة الأمية (الألفبائية) فيه، الأربعين بالمائة والأمية (المعرفية) تسعة وتسعين وتسعة أعشار المائة، والأمية (الثقافية) فيه المائة في المئة .. رئيس البلاد جاهل مصاب بوباء الأمية، رئيس الوزراء جاهل مصاب بوباء الأمية، رئيس البرلمان جاهل مصاب بوباء الأمية، الوزراء جهلة مصابون بوباء الأمية، العصابات تسرح وتمرح في البلاد جهلة بالضرورة، بكل أوبئة الجهل، يطلقون عليهم لفظة الغرب المحسنة "مليشيات".. هناك عصابات الدولة وعصابات السلطة وعصابات الأمن وعصابات المخابرات وعصابات المخدرات وعصابات الاقتصاد وعصابات النفط وعصابات المياه وعصابات المصارف وعصابات التقاعد وعصابات الاستيراد وعصابات المطارات وعصابات الحدود ومنافذ الحدود وعصابات الدين وعصابات المراقد وعصابات محو التاريخ وإلغاء الذاكرة والهوية الوطنية وعصابات الطحين والخبز وعصابات "الصمون" وعصابات الملابس وعصابات الألبان وعصابات الأسماك الملوثة بالمواد السامة، وعصابات الطوائف والأعراق والقوميات، وعصابات السفارات. وعصابات الجوامع وعصابات المقاولات وعصابات المقابر.. نعم حتى عصابات المقابر، وتجارة الموت القسري، حتى بات العراق ميتاً موتاً سريرياً ينتظر الموافقة على زرقه إبرة المورفين الرحيمة!
فهل ثمة أمل نرجوه من خالق أو من عبد لخالق يستطيع أن يرفع عن كاهلنا هذا الحمل الثقيل من الكوارث العبئية التي يفوق عبؤها سلاسل جبال الكون وكونكريت قلاع جبابرة الكون!
لا أحد؟؟؟
لا أحد !!!
شيء يدعو للدهشة المحيرة وللمهزلة المرة، أن يعتقد منتسبو وقادة الأحزاب الكوميدية والمكونات المضحكة من شمال الوطن حتى جنوبه، والأفراد السائرون في نومهم، أنهم سوف يصلحون الباطل ويعدلون اعوجاج الحاكمين ونواب البرلمان ذوي اللحى والأكفان .. فهب القوم بدوافع غير مؤكدة البوصلة ومؤشرات البوصلة، لكي يتسلموا الإصلاح برلمانيا بين عشية وضحاها، فعامل الزمن غير محسوب العواقب، وملعون.. هو زيف الحياة الديمقراطية، الذي سرعان ما انكشف بكمشة من البارود هبت بسبب الريح والمزاج بين روسيا وأوكرانيا، فسرت نيرانها نحو بلدان الدلال الغربية ليشلحها ثيابها المزهوة بورود الديمقراطية الزائفة.. نصبح حينها مهددين بإلغاء مواطنة التجنس، والاعتداء بسببها على حرياتنا ونقل السندان الذي وضعنا جذورنا فيه بدلا عن تراب الوطن، ينقلونا من الشرفة إلى مخزن المنزل المزدحم بسكراب المنزل، تمهيداً لإخراجنا من نظام الحواسيب كمواطنين من الدرجة الثانية أو ما بعد الثانية!
نحن لنا أوطان.. هذه سنة الله أو من يعادله في الحكم المطلق.. ونحن لنا وطن كان جديراً بأن تنسب إليه صفة الوطن، وطننا كان يسمى يوما بلاد ما بين النهرين، فأطلق عليه اسم العراق نسبة إلى أوروك أو الوركاء، المدينة السومرية، حين كانت الوركاء وطناً لأبنائها.. هذا الوطن الذي انتهى وأصبح نصباً تحت أنقاض التاريخ تستخرجه البعثات الأثرية ويوضع في المتاحف يتفرج عليه الناس من أبناء الفرنجة.. اصبح اليوم فوق الأرض، وطن الأنهار الجافة والأهوار المجففة.. أصبح مزبلة ما بين النهرين، وأيضا تتفرج عليه الناس ويشمت فيه الجار.. هذا الوطن العراقي، يحتاج اليوم، إلى ناس شجعان شرفاء نظيفي الروح والملبس، ولا يحتاج إلى مصلحين غير معروفة مديات أزمانهم المدعية، ومدى نظامهم الداخلي، ونظام ما بين السطور، بل يحتاج إلى زبالين من الأكاديميين، حتى ينظفوا الأرض من الطفيليات والأحراش المريضة، لتنبت فسائل النخيل من جديد وتعودون لإنسانيتكم وتاريخكم مواطنين عراقيين، لا تمجدوا البكاء، بل تمجدون الفرح..!
وسوى ذلك، مأسوف القول، ذاتك وطنك!
*سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا