رأي

جمهورية الغرائز

جمهورية الغرائز

فوزي عبدالرحيم

غريزة الإنسان هي الأساس في بقاء نوعه،ومنها تتفرع أصناف أخرى مثل ألرغبة بالتملك أو التكاثر،وهنا يتشابه الإنسان في بداياته مع الحيوان لكن التطورات ألتي حدثت لعقل وجسم الإنسان نقلته درجات كبيرة بعيدا عن غرائزه حتى إقتربت جماعات منه  للملائكة فيما ظلت غريزة البقاء حية لدى عموم الجنس البشري.. تبدأ الغرائز بالتهذب والإنضباط مع تحول الإنسان لإنشغالات خارج إطار الطعام والسكن والإنجاب ورعاية الاولاد،ليتطور ذلك التحول بالإيمان بقيم ومثل تصل به للنهاية للاهتمام بالآخرين ومصيرهم بموازاة إهتمامه بأموره الخاصة حتى يصل الأمر بالنخبة أنها تضع الآخر ومصيره أولوية مطلقة على كل شيء.

 

وواحد من تلك الإهتمامات التي ترقى بالناس بعيدا عن غرائزه الإنخراط بالعمل العام بأشكاله المتعددة واهمها العمل السياسي، نعم العمل السياسي، فهكذا بدأت الأمور ولكن كما في حالات عديدة يخرب بعض البشر أعمالا وممارسات وتضحيات ليحولوها إلى مصالحهم كما هو الأمر في العراق وفي كثير من دول العالم.. في العراق بالذات تميز الشأن العام بغنى مفرداته وبحيوية ممارسيه وتضحياتهم وتأثيرهم في خلق قيم ومفاهيم جديدة وإنسانية مثل الولاء للوطن وعدم التمييز بين أبناءه، وفي تكريس قيم العمل الجماعي، والإخلاص في العمل والإنتماء للإنسانية جمعاء وإذ عاصرت جزءا من ذلك الزمن الذي إزدهرت به تلك القيم أستطيع التاكيد أن مقولة الإنسانية رتبة يصلها بعض البشر كانت ملموسة عمليا باجيال من هذا النموذج الذين وصلوا لهذه الرتبة..لم تستطع تلك الاجيال أن تحقق أهدافها لكنها ضحت في سبيل ذلك بكل ماإستطاعت،لكن سني حكم الدكتاتوريات العسكرية والحزبية المديدة غيرت ضمن أمور عديدة القيم الوطنية والإنسانية فنشأت أجيال تنتمي للدين والمذهب والعرق أو المدينة حاملة في كثير من الاحيان الكره والإحتقار للآخرين من غير المتماثلين وعدم التعامل معهم سواسية .

 

لقد إعتمد حكم البعث المديد بدرجة كبيرة على غرائز بعض قياداته واعضائه،لكنه بعد سيطرة صدام على السلطة بشكل كامل في تموز 1979 فإن الغريزة هي التي حكمت العراق حتى سقوطه في نيسان 2003، فالحقد على الآخر والكراهية والقسوة كلها غرائز دونية تمثل أسوأ مافي الإنسان من صفات، وأسوأ من ذلك أن ممارسات الكراهية والتمييز وتطبيقاتها القاسية من قتل وتعذيب وتهجير وسلب حريات وأموال وممتلكات قد سرت في المجتمع وخلقت ضدا نوعيا يقابل الكراهية بالكراهية والتمييز بالتمييز، وعندما سقط نظام الغريزة الصدامي لم يكن في الساحة أقوى من القوى الغرائزية المعادية للبعث .

 

إن عقيدة الأحزاب التي هيمنت على البلاد بعد 2003 كانت دينية ومذهبية بشكل عام وعرقية جزئيا وهذه العقيدة التي تستند على هوية لم يخترها الإنسان تعود بقضية الإنتماء للوطن وفكرة المواطنة لأزمان كنا تجاوزناها منذ زمن بعيد، فمن النضال من أجل فكرة سامية ترى للناس المختلفين حقوقا متساوية، إلى عقيدة ترى في الإنتماء الغريزي هوية تستدعي التقدير والتمييز  ،تبنى بها مؤسسات الدولة..العمل العام بكل أشكاله قد يتضمن قدرا من الغرائزية لكنه في النهاية عمل يعتمد على قيم أنزلت الغريزة لمرتبة متدنية واعلت من الإنسانية والوطنية والإحساس بالآخرين وبالمصير المشترك.

 

للغرائزية تطبيقات كثيرة بعضها مفهوم ومحتمل وينسجم مع طبيعة الاشياء لكن الأمر في العراق كان مختلفا إذ إزدهرت أحط أشكال الغرائزية ممارسة فاللصوصية وإستحلال المال العام بل وإستحلال دم المخالف ولو كان من نفس المذهب الذي يحكمون بإسمه كلها تجليات للغرائز البشرية الدونية لكن الأسوأ منها أن تهبط معايير الإنسان فيحتل الجهلة وناقصي المواهب عديمي الكفاءات ،بل وحتى معيوبي الخلقة والأخلاق معظم المراكز التي يفترض أن يحتلها من هم نخبة المجتمع.

 

أستغرب ممن يتعجب من إنحدار البلد في كل المجالات ويطلب من السلطة الحاكمة واحزابها سياسة خارجية وطنية أو إنجاز أعمال تعزز وضع البلد الإقتصادي وسيادته، أو أداء سياسي ومهني افضل، فهذا ليس فقط خارج تفكير الحاكمين بل خارج قدراتهم ..الوطنية والإنتماء للشعب والوطن والإخلاص لهما وغيرها من المواصفات المفترضة بالحاكمين تحتاج مؤهلات وتربية وعقيدة في الحياة لاتحتملها عقولهم التي حلت محلها غرائزهم.

 

إن الغرائزيين في هذا العهد وفترة حكم صدام لاخيار لهم للبقاء سوى التمسك بغرائزهم فهم بدونها لايمكنهم التنافس مع الآخرين المسلحين بكفاءات علمية أو فنية أو علمية وكما قال الشاعر العربي أبو تمام..ولو كانت الأرزاق تأتي على الحجا..لمتن إذن من جهلهن البهائم..(الحجا هو العقل).

 

مقالات أخرى للكاتب