رأي

دغش ..!

دغش ..!

قاسم حول

العراق عصي على الترجمة. عصي على الفهم. عصي على الصداقة وعصي على العداوة. عصي على البعيد وعصي على القريب. عصي على الماضي وعصي على الحاضر وعصي على الغد الآتي. عصي على الليل وعصي على النهار. عصي على الظلام وعصي على النور. عصي على القيام  وعصي على السجود. عصي على الإيمان وعصي على الكفر. عصي على الألفة وعصي على الغربة. عصي على الموت وعصي على الحياة. عصي على الإرتواء وعصي على العطش. عصي على المنام وعصي على اليقظة. عصي على السفر وعصي على الإستقرار. عصي على الحزن وعصي على الفرح. عصي على البرلمانات وعصي على الانتخابات. عصي على الرئاسات وعصي على الرايات .. يصعب فك مضامين مفرداته، ومفردات لغته العراقية والعربية ويصعب فك مضامين لغة صمته، ويصعب فك مضامين لغة دموعه وابتساماته. يصعب معرفة أسباب انتظاراته وصبره. يصعب معرفة حجم بلوغ أحزانه حد الفاجعة.

 

يصعب معرفة هبّة النخوة فيه حين يحاصر وحين يشعر بالإلغاء والعدم، وهو في أقسى أحوال الرفض والتمرد والفاقة وأهوالها، لذلك داخ من تورط به حاكماً مواطنا غريبا جاراً زائراً مهاجراً مستعمراً ناهباً متسللا غادراً ناقماً عاشقاً نبياً وإلهاً. فهو يختصر بمفردات لغته، النذالة والكراهية والتقية والخفاء والتلصص والتعاون غير المشروع والمخاتلة والبيع والشراء والإتفاقيات والمؤتمرات في نواحي جباله المتصدعة.

 

يختصر بمفردات لغته، الطرابيش والعمائم والسدارات والصلع.. يختصر التاريخ والصلوات والوضوء الدعي، ويختصر الجغرافيا وبيع الحدود وخزائنها.. يختصر الساسة والحاكمين وأولاد الزنا ودولة اللواطيين وبلدان المخانيث المجاورة، يختصر جفاف الأنهار الطافحة بمياه التصريف، والسماء المدلهمة بالغيوم وصيفها الناري، يختصر الإتفاقيات السرية والعلنية والصحف المشبوهة وأصوات الإذاعات الكاذبة وأنغام الأغنيات الزائفة وجوقات الألحان النشاز، والفضائيات المخاتلة والأضوية الخابية والأمطار الصيفية والنخلة الذابلة عذوقها، يختصر الجيل الذي لم ينزل من رحم الأمهات، والحاكم المعمم أو الفارع والذي لم يشرب اللبن الصافي من أثداء والدته .. يختصر الخيانة في التاريخ القديم والقريب والمعاصر.. يختصر كورال الخونة النشاز من الأحزاب والمكونات وتجمعات الفسق والفجور، يختصر الحروب السخيفة وشهداءها الأبرار من الموتى والمعاقين، حتى بات غريباً في وطنه، غريباً في محنته، فإستعصى عليه الحل وضيع المشيتين مشية الغراب ومشية الحمامة بسبب شلة من أولاد القحاب والزنا، بل ومن نسل شريفات التاريخ الملكجات، الذين أنشأوا المصارف والمطارات بعد أن هدموا مسلات حمورابي وهشموا رقم الطين المطبوخ بالنار السومرية وسجدوا للنار الأزلية، حين شموا فيها رائحة النفط، فأخذوا العينات من سخمها المداف في سبخها، ودهنوا أبواب مراقد القديسين بديلا عن الحناء وإعتلوا المنابر ودعوا الناس ليؤدوا طقوس الأمس التي لا وجود لأهازيجها، بل أن رموزها كانوا أوفياء لذواتهم وأوفياء لأهلهم ونذروا أنفسهم لغد ليس لهم رؤية سواه، لكنهم عرفوا أنه سوف يتوج بالأقمشة الملفوفة فوق هامات أبدان وسخة وأقمشة ثانية ترفرف فوق هامات بنايات ملآى بخزانات المال الحرام.. عبروا عن كل ذلك بمفردة واحدة التي يصعب فك رموزها كاملة إذ تندرج تحت مغزاها الأهوال التي بنيت على الزيف والإنحطاط وإستهداف التدهور لوطن نشأ عظيما وتأسس نبيلا ليمسي موقعا غير قابل للإقامة فيه، لأنه بني على  مفردة واحدة غير مدون مرادفها في كل لغات البشر (دغش)!

 

 

سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا

مقالات أخرى للكاتب